الأرض كائن حي: حين لا يكون الاقتصاد هو الأساس بل الأرض نفسها

في عالم يزداد فيه الحديث عن النمو الاقتصادي والتقدم الصناعي والتكنولوجي تغيب في كثير من الأحيان الحقيقة الأهم: الأرض ليست مجرد مورد، بل كائن حي نابض يحمل الحياة وينتجها ويحتضنها. ومع استمرار استنزافنا لها ينسى كثيرون أن بقاءنا لا يعتمد على الأسواق أو الأرقام بل على هذا الكائن الحي الذي يعيلنا جميعًا. فإذا ماتت الأرض مات كل شيء بما في ذلك الاقتصاد ذاته.

 

أولا: الأرض ليست جمادا… الأرض نظام حي

العلم الحديث يعزز هذه الفكرة من خلال مفهوم “غايا” Gaia Hypothesis الذي وضعه العالم “جيمس لوفلوك” ويفترض أن الأرض ككل – بمناخها، محيطاتها، غلافها الجوي وتنوعها البيولوجي – تعمل كوحدة بيولوجية متكاملة تتفاعل للحفاظ على الحياة.

الغلاف الجوي لا يُنظم نفسه عشوائيًا، بل يتأثر بتفاعلات النباتات – المحيطات – البراكين – والكائنات الدقيقة.

الأشجار لا تنتج الأكسجين فقط، بل تلعب دورا في تنظيم دورة المياه والطقس.

الكائنات الحية الدقيقة في التربة تخلق شروط الحياة وتعيد تدوير المغذيات.

 

ثانيا: الاقتصاد يعيش على ظهر الأرض وليس العكس

يعتمد الاقتصاد في جوهره على استغلال الموارد الطبيعية:

الزراعة تحتاج تربة خصبة وماء نقي وهواء نقي.

الصناعة تحتاج معادن ومصادر طاقة مأخوذة من باطن الأرض.

السياحة تعتمد على جمال الأرض وتنوعها البيئي.

لكن عند تحويل الأرض إلى مجرد “سلعة” ندخل في دوامة استنزاف:

* إزالة الغابات لإنتاج زيت النخيل.

* تلوث الأنهار لاستخراج الذهب.

* التصحر الناتج عن الرعي الجائر. كل ذلك يُضعف “صحة الأرض” ويؤدي إلى اختلال أنظمتها البيئية ما ينعكس سلبًا على استقرار الاقتصاد ذاته.

 

ثالثا: ما لا يفهمه الاقتصاد التقليدي

الاقتصاد التقليدي يُقيّم التنمية بزيادة الناتج المحلي الإجمالي لكنه لا يحتسب:

فقدان التنوع البيولوجي.

تدهور التربة.

ارتفاع درجات الحرارة.

انقراض الأنواع. وهذه ليست مجرد خسائر بيئية بل أزمات وجودية.

الاقتصاد يُفترض أن يخدم الإنسان ولكن الإنسان لا يمكنه البقاء بدون بيئة صالحة للحياة. إن تجاهل حدود الطبيعة يقود إلى ما يسميه الخبراء “الانهيار البيئي الاقتصادي” حين تتوقف النظم الطبيعية عن دعم الاقتصاد نفسه.

 

رابعا: الأرض تتألم… والإشارات واضحة

ارتفاع درجات الحرارة عالميًا يغير ملامح الفصول ويهدد الأمن الغذائي.

ذوبان الجليد يرفع مستوى البحار ويُغرِق الأراضي الساحلية.

الحرائق البرية أصبحت أكثر شدة بسبب الجفاف وارتفاع الحرارة.

الأوبئة الجديدة مرتبطة بتدمير المواطن البيئية وانتقال الأمراض من الحيوانات إلى البشر.

كل ذلك ليس “مصادفة” بل أعراض مرض كائن حي اسمه الأرض.

خامسا: إعادة التفكير… الاقتصاد في خدمة الأرض لا العكس

إذا أردنا اقتصادا مستداما فعلينا تبنيه على قواعد تحترم الأرض مثل:

الزراعة العضوية والتجديدية التي تغذي التربة بدل إنهاكها.

الاقتصاد الدائري الذي يعيد استخدام الموارد ويقلل الفاقد.

الاستثمار في الطاقة المتجددة بدلًا من استنزاف الوقود الأحفوري.

حماية الغابات والبحيرات كمخازن طبيعية للكربون والتنوع البيولوجي.

 

سادسا: دعوة للتحول الحضاري

نحن لا نحتاج إلى المزيد من النمو الاقتصادي الأعمى بل إلى نمو في الوعي وإدراك أن الأرض لا تحتاجنا بل نحن من نحتاجها.
علينا أن نتوقف عن التعامل مع الأرض كمخزن أو مكب نفايات وأن نبدأ بالتعامل معها كأم كبيت وككائن حي يتنفس.

وفي النهاية قد نملك أفضل البنوك وأذكى التقنيات وأضخم المشاريع ولكن إذا انهارت الأرض انهار كل شيء.
ليست الأرض من تحتاج إلى الاقتصاد بل الاقتصاد هو الذي لا يُمكن أن يُوجد أو يُزدهر إلا على أرض حية وصحية.
الأرض هي الأساس… كل ما سواها تفصيل وتابع .

✍ بقلم:

الدكتور/ فوزي العيسوي يونس
استاذ ورئيس وحدة فسيولوجيا الأقلمة- مركز بحوث الصحراء
واستشاري البصمة الكربونية والإستدامة البيئية.

مشاركة المقالة

مقالات ذات صلة

تقنية احتجاز واستخدام وتخزين الكربون (CCUS) المعبر للمستقبل وضرورة استراتيجية لمواجهة تغيّر المناخ.

تقنية احتجاز واستخدام وتخزين الكربون (CCUS) المعبر للمستقبل وضرورة استراتيجية لمواجهة تغيّر المناخ

تُعرف تقنية احتجاز واستخدام وتخزين الكربون (Carbon Capture, Utilization, and Storage ) على أنها تقنية رائدة تقوم هذه التقنية على التقاط غاز ثاني أكسيد الكربون (CO₂) الناتج من المصادر الصناعية

إقرأ المزيد »

ارسل لنا تعليق