“خُضرة الصحراء: بين التاريخ والمستقبل”

فهل تتخيل أن أكبر صحراء حارّة في العالم الصحراء الكبرى كانت يوما ما مروجا خضراء تعج بالحياة؟ وأن أراضي شبه الجزيرة العربية التي نعرفها اليوم بجفافها القاسي كانت تجري فيها الأنهار وتسكنها الحيوانات المدارية؟ هذه ليست مجرد خيالات بل حقائق علمية موثقة تعود إلى آلاف السنين خلال ما يعرف بـ”الفترة الرطبة الإفريقية”. في هذا السياق تفتح لنا دراسة تاريخ المناخ نافذة لفهم ديناميكيات الأرض العميقة وتدفعنا للتساؤل: هل من الممكن أن تستعيد هذه المناطق خضرتها في المستقبل؟ وما هو الدور الذي يمكن أن نلعبه نحن في ظل التغير المناخي المعاصر لإعادة التوازن البيئي واستعادة الأمن الغذائي في مناطق طالما عُرفت بالقحولة؟

هذا ولطالما اعتبرت الصحراء الكبرى وشبه الجزيرة العربية رمزا للجفاف والحرارة القاسية ولكن ما لا يعرفه الكثيرون أن هاتين المنطقتين كانتا في الماضي القريب نسبيا أرضا خصبة مليئة بالحياة. في فترة زمنية تعرف بـ الفترة الرطبة الإفريقية (African Humid Period) التي امتدت من حوالي 10,000 إلى 6,000 سنة مضت شهدت هذه الصحارى تحولات بيئية ومناخية مذهلة كانت خلالها أكثر خضرة وثراء بيولوجيا من كثير من المناطق الحالية.

فعندما كانت الصحراء خضراء: لمحة من الماضي

خلال تلك الفترة هطلت الأمطار الموسمية بغزارة على مناطق شمال إفريقيا والجزيرة العربية فتحوّلت الأراضي الصحراوية إلى مروج وسهول وغابات خفيفة وعاشت فيها حيوانات كبيرة مثل الزرافات – الفيلة – فرس النهر – والتماسيح إلى جانب مجتمعات بشرية زاولت الزراعة والرعي والصيد. وقد وجدت نقوش صخرية في صحراء الجزائر وليبيا تظهر مشاهد لصيادين وحيوانات مدارية مما يؤكد على طبيعة الحياة الغنية آنذاك.

في الجزيرة العربية وخاصة شمال السعودية ومرتفعات اليمن وعُمان تكشف الدراسات الحديثة عن وجود أنهار موسمية قديمة، وممرات مائية استخدمها البشر في هجرتهم من إفريقيا نحو آسيا. وتشير بقايا العظام والبيئة الرسوبية في بعض الكهوف إلى أن هذه المناطق احتضنت نظمًا بيئية مدارية وغنية بالحياة.

لماذا تحولت الأراضي الخضراء إلى صحارى؟

التحول من الخضرة إلى التصحر لم يكن عشوائيا أو ناتجا عن نشاط بشري بل نتيجة لآلية طبيعية تسمى السبق المحوري (Axial Precession) وهي تغير دوري في ميل محور الأرض يحدث كل نحو 26,000 سنة يؤثر على توقيت الفصول وشدة أشعة الشمس في المناطق المختلفة من الأرض.

نتيجة لهذا التغير تحركت الرياح الموسمية تدريجيا جنوبا ما أدى إلى انخفاض كميات الأمطار في شمال إفريقيا وشبه الجزيرة العربية وبدأت النباتات تختفي تدريجيا وتحل محلها الكثبان الرملية حتى أصبحت المنطقتان على ما هما عليه اليوم.

هل يمكن أن تعود الصحراء خضراء من جديد؟

نظريا نعم. نظرا لأن التغير المناخي الطبيعي يتبع دورات فلكية منتظمة فإن عودة نمط الرياح الموسمية إلى الشمال خلال آلاف السنين القادمة ممكن مما قد يعيد للأرض خصوبتها. لكن الواقع المعاصر يفرض عوامل جديدة:

1. التغير المناخي الناتج عن النشاط البشري (ارتفاع الغازات الدفيئة – الاحتباس الحراري – واختلال الدورة الهيدرولوجية).

2. التدهور البيئي الناتج عن إزالة الغابات والرعي الجائر وسوء إدارة الموارد.

3. ارتفاع درجات الحرارة بمعدل أسرع من أي وقت مضى في التاريخ الجيولوجي الحديث.

هذه العوامل قد تؤخر أو تعيق عودة المناخ إلى حالته الطبيعية أو تغير المسار الطبيعي تماما.

فكيف يمكننا العمل على استعادة الخضرة؟

رغم التحديات توجد استراتيجيات علمية وتقنية يمكن أن تساهم في إعادة بعض المناطق إلى حالتها شبه الخضراء من بينها:

1. مشاريع إعادة التحريج (Reforestation):

زراعة أنواع محلية متكيفة مع الجفاف (مثل الأكاسيا).

استخدام تقنيات الري بالتنقيط والمياه المعالجة.

2. تقنيات حصاد المياه (Water Harvesting):

بناء سدود ترابية صغيرة.

إنشاء حُفر لتجميع مياه الأمطار (Zai pits).

استخدام الحواجز النباتية لمنع التعرية.

3. مشروع الحزام الأخضر (Great Green Wall):

مبادرة إفريقية تمتد من السنغال إلى جيبوتي.

تهدف لزراعة آلاف الكيلومترات من الغطاء النباتي لوقف زحف التصحر.

4. تقنيات الزراعة الذكية مناخيا (Climate-Smart Agriculture):

استخدام المحاصيل المقاومة للجفاف.

تدوير المحاصيل وتحسين التربة بيولوجيا.

5. إعادة إحياء المجاري المائية القديمة:

رصد الأنهار الجافة (Paleochannels) باستخدام الرادار الفضائي.

استغلالها في مشاريع استصلاح زراعي مستقبلي.

وختاما ومما سبق فبينما تبقى إعادة الخضرة الكاملة للصحراء الكبرى والجزيرة العربية حلمًا طويل الأمد، فإن المعرفة العلمية والتقنية الحديثة تمكّننا من استعادة التوازن البيئي على نطاق محلي وإقليمي. ويمكن أن تكون تلك المناطق في المستقبل مراكز لزراعة مستدامة وإنتاج الطاقة الشمسية والتصدي لتغير المناخ.

رغم أن العودة الكاملة للخضرة إلى الصحراء الكبرى والجزيرة العربية قد تستغرق آلاف السنين وفقا للدورات الفلكية الطبيعية فإن الأمل لا يزال قائمًا في تحقيق استعادة جزئية ومدروسة للتوازن البيئي من خلال العلم والتقنيات الحديثة والإرادة السياسية. ففي عالم يواجه تهديدات متزايدة للأمن الغذائي والمائي بسبب تغير المناخ تصبح استعادة الحياة في المناطق الجافة تحديا حضاريا وأخلاقيا في آن واحد. إن الاستثمار في الطبيعة وإحياء النظم البيئية الصحراوية ليس فقط مسارًا نحو التنمية المستدامة بل أيضا رسالة واضحة بأن بإمكان الإنسان إذا وعى وفعل أن يصنع فارقا في وجه أكثر القضايا تعقيدا في عصرنا.

ومما سبق فإن إحياء الصحراء ليس فقط مشروعًا بيئيًا بل خيار استراتيجي للأمن الغذائي والمائي في القرن الحادي والعشرين. وربما يحمل لنا المستقبل دورة مناخية جديدة يعانق فيها الرمل الخضرة من جديد.

بقلم:

الدكتور/ فوزي العيسوي يونس
استاذ ورئيس وحدة فسيولوجيا الأقلمة- مركز بحوث الصحراء
واستشاري البصمة الكربونية والإستدامة البيئية.

 

مشاركة المقالة

مقالات ذات صلة

من البصمة الكربونية إلى الحياد الصفري: خطوات عملية لتحقيق التنمية المستدامة

من البصمة الكربونية إلى الحياد الصفري: خطوات عملية لتحقيق التنمية المستدامة

تواجه البشرية اليوم تحديا بيئيًا محوريًا يتمثل في ارتفاع مستويات انبعاثات الغازات الدفيئة، وعلى رأسها ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن الأنشطة الصناعية والزراعية والاستهلاكية. هذه الانبعاثات هي السبب الرئيس وراء

إقرأ المزيد »

ارسل لنا تعليق