بداية فإن عصر الأنثروبوسين يمثل المرحلة التي أصبح فيها التأثير البشري قوة جيولوجية رئيسية كما يشهد نظام الأرض تغيرات متسارعة تنذر باقترابه من نقاط تحول مناخية متتالية (Cascading Tipping Points).
هذا وإن نقطة التحول في النظام المناخي تعد هي العتبة التي يمكن أن تؤدي إلى تغييرات كبيرة في حالة النظام عند تجاوزها. تم تحديد نقاط التحول المحتملة في نظام المناخ المادي وفي النظام البيئي المتأثر وفي بعض الأحيان كليهما. على سبيل المثال تعتبر التغذية الراجعة من دورة الكربون العالمية محركا يدفع للانتقال بين الفترات الجليدية والفترات بين الجليدية، ويوفر التأثير المداري للأرض الحافز لهذه التغييرات. يتضمن سجل درجة حرارة الأرض الجيولوجية العديد من الأمثلة على التحولات السريعة الجيولوجية بين مختلف حالات المناخ.
كما أن هذه التغيرات التي لم تعد نظرية بحتة بل واقعا ملموسًا تتجلى في انتقال النظم البيئية الفرعية من حالة توازن هش إلى حالات اضطراب متسلسلة ذات طابع متطرف وغير رجعي. وما يزيد من خطورة هذا الوضع هو الترابط المعقد بين النظم الفرعية (Sub-systems) لكوكب الأرض حيث تؤدي تغيرات في نظام واحد إلى إحداث تحولات في أنظمة أخرى عبر آليات التغذية الراجعة.
1. ما المقصود بنقاط التحول في نظام الأرض؟
نقطة التحول المناخي (Tipping Point) هي الحد الذي إذا تم تجاوزه، يؤدي إلى تغير جذري ومفاجئ في سلوك النظام البيئي أو المناخي.
على سبيل المثال ذوبان الجليد في غرينلاند أو انهيار الغابات المطيرة في الأمازون أو تباطؤ التيارات المحيطية مثل تيار الخليج (Gulf Stream) تمثل جميعها أنظمة قد تصل إلى نقاط تحول لا رجعة فيها. وعند حدوث تغييرات متعددة في هذه الأنظمة تتفاعل فيما بينها بما يُعرف بـ “شلال الانحراف” وهو تسلسل من التغيرات يُغذي بعضها البعض ويؤدي إلى زعزعة استقرار النظام الأرضي برمّته.
2. كيف تحدث نقاط التحول المتتالية؟
تبدأ هذه التحولات من تغيرات صغيرة في نظام فرعي معين كارتفاع درجات الحرارة في القطب الشمالي مما يؤدي إلى ذوبان الجليد البحري ويقلل من قدرة سطح الأرض على عكس أشعة الشمس (ظاهرة البياض الجليدي). هذا يؤدي إلى امتصاص أكبر للطاقة الشمسية وزيادة الاحترار.
هذا ومع مرور الوقت تجبر هذه التغيرات أنظمة أخرى على التغير أيضا مثل زيادة انبعاثات الميثان من التربة الصقيعية الذائبة أو تدهور الغابات الاستوائية بسبب موجات الجفاف وحرائق الغابات. ومع زيادة الترابط بين هذه الأنظمة تتسارع “الاتصالات عن بعد” (Teleconnections) وهي تفاعلات مناخية تحدث بين مناطق متباعدة جغرافياً.
3. أثر ذلك على الاحترار العالمي
تؤدي هذه السلسلة من التفاعلات غير الخطية إلى تضخيم ظاهرة الاحتباس الحراري حيث تتحول الأنظمة التي كانت تعمل كعازل مناخي – مثل المحيطات والغابات – إلى مصدر إضافي لانبعاثات الكربون.
فعلى سبيل المثال:
* المحيطات تفقد قدرتها على امتصاص ثاني أكسيد الكربون.
* الغابات المدارية تتحول من مصارف للكربون إلى مصادر له.
* التربة الصقيعية تطلق كميات ضخمة من الميثان وهو غاز دفيئة أقوى من ثاني أكسيد الكربون بعشرات المرات.
4. تسارع الأحداث المناخية المتطرفة
نتيجة لتكثف الاتصالات بين النظم نشهد الآن تسارعاً في وتيرة الأحداث المناخية المتطرفة مثل:
* موجات الحرارة الشديدة (Heatwaves)
* الفيضانات المفاجئة
* الأعاصير واسعة النطاق
* حرائق الغابات الخارجة عن السيطرة
وهذه ليست مجرد ظواهر منعزلة بل أصبحت أحداثًا مركبة (Compound Events) تتغذى على بعضها وتدفع النظم البيئية إلى حالات انهيار وظيفي (Functional Collapse).
5. لماذا يحدث كل شيء بسرعة الآن؟
يرجع التسارع في التغيرات المناخية إلى ما يعرف بـ رد الفعل الإجباري للنظام (Forced System Response) حيث تفرض التحولات السريعة في الأنظمة الديناميكية على الأنظمة البطيئة الاستجابة أن تتغير بدورها بسرعة. وهذا يولد حالة من التضخيم الذاتي للتغير المناخي تُفقد فيها الأرض مرونتها الطبيعية (Earth System Resilience) في مواجهة الصدمات.
6. الرسالة العلمية: التحذير من المسار نحو “نظام الأرض الساخن”
كما يظهر من مسارات نظام الأرض في الأنثروبوسين (Earth System Trajectories in the Anthropocene) فإننا نواجه الآن خيارا حاسما:
إما أن نعيد النظام الأرضي إلى مسار “كوكب قابل للعيش” من خلال تدخلات جذرية
أو نسمح بانحداره إلى حالة “نظام أرض ساخن” (Hothouse Earth) حيث يتجاوز الاحترار العالمي +2 درجة مئوية وتتوالى التحولات المناخية بشكل غير قابل للإيقاف.
كما أشار تيم لينتون المعد المشارك ومدير معهد النظم العالمية بجامعة إكستر: “يظهر لنا الماضي القريب للأرض كيف أدت التغييرات المفاجئة في نظام الأرض إلى تأثيرات متتالية على النظم البيئية والمجتمعات البشرية حيث كانوا يكافحون من أجل التكيف”.
وأشار لينتون: “نحن نواجه خطر تتابع نقاط التحول مرة أخرى – ولكن هذه المرة من صنعنا وستكون التأثيرات عالمية. وفي مواجهة هذا الخطر يمكننا التعامل مع بعض أنظمة الإنذار المبكر”.
وينقسم العلماء حول متى أو ما إذا كان سيتم تشغيل معظم نقاط التحول ولكن الكثيرين يعتقدون أن التأثيرات مثل ذوبان الصفيحة الجليدية “محصورة” بالفعل بسبب التلوث الكربوني.
وأشار معدو المراجعة التي نشرت على الإنترنت إنها أظهرت أدلة على أن تأثيرات التغييرات المفاجئة الماضية على نظام الأرض مجتمعة تسببت في اضطراب على مستوى الكوكب.
وتؤدي التغييرات في مستويات الجليد والتيارات المحيطية إلى تأثيرات متتالية مثل انخفاض مستويات الأكسجين في المحيطات والغطاء النباتي ومستويات ثاني أكسيد الكربون والميثان في الغلاف الجوي.
كما أشار سابقا المعد الرئيسي فيكتور بروفكين من معهد ماكس بلانك للأرصاد الجوية: “يبدو الأمر غير منطقي ولكن للتنبؤ بالمستقبل قد نحتاج إلى النظر إلى الماضي”.
وقال: “إن فرصة اكتشاف التغيرات المفاجئة ونقاط التحول – حيث تؤدي التغييرات الصغيرة إلى تأثيرات كبيرة – تزداد مع طول عمليات الرصد. وهذا هو السبب في أن تحليل التغييرات المفاجئة وتسلسلها المسجل في المحفوظات الجيولوجية له أهمية كبيرة”.
وفي النهاية فنحن نعيش في زمن قرارات حاسمة فمستقبل الأرض لم يعد يرسم خلال قرون بل خلال عقود قليلة. هذا ويتضح مما سبق أن نقاط تحول المناخ تحظى بأهمية خاصة فيما يتعلق بمخاوف تغير المناخ في العصر الحديث. تم تحديد السلوك المحتمل لنقطة التحول بالنسبة لمتوسط درجة حرارة سطح الأرض من خلال دراسة التغذية الراجعة ذاتية التعزيز والسلوك السابق لنظام مناخ الأرض. هذا ويمكن أن تؤدي التغذية الراجعة ذاتية التعزيز في دورة الكربون والوضاءة الكوكبية إلى مجموعة متتالية من نقاط التحول التي تقود العالم إلى حالة مناخ الدفيئة.
كما إن تحولات النظام الأرضي المتسارعة نتيجة تغذية راجعة متبادلة بين النظم الفرعية تمثل تهديدا وجوديا للبشرية. كما أن نقاط التحول المتتالية للأرض تسارع الشلالات المناخية وتعمل علي تضخيم الاحترار العالمي.
هذا وكما أشار لينتون: “نحن نواجه خطر تتابع نقاط التحول مرة أخرى ولكن هذه المرة من صنعناه بأيدينا وستكون التأثيرات عالمية. وإما أن نعيد النظام الأرضي إلى مسار “كوكب قابل للعيش” من خلال تدخلات جذرية أو نسمح بانحداره إلى حالة “نظام أرض ساخن”.
ولتفادي الوقوع في دوامة نقاط التحول المتتالية علينا تبني إجراءات فورية وجذرية لخفض الانبعاثات واستعادة التوازن الطبيعي للنظم البيئية وتعزيز صمود الكوكب أمام التغيرات القادمة.
بقلم:
الدكتور/ فوزي العيسوي يونس
استاذ ورئيس وحدة فسيولوجيا الأقلمة- مركز بحوث الصحراء
واستشاري البصمة الكربونية والإستدامة البيئية.